أبعاد حركة الإمام عليّ بن الحُسين (ع) بعد عاشوراء
في كربلاء، كان هناك نوع من الانقلاب على الشخصية الإسلامية بكل معنى الكلمة؛ بل كان هناك انقلاب على الشخصية الإنسانية، حيث وجدنا أمامنا في كربلاء نموذجين.
النموذج الأوّل، يرتقي إلى مستوى لا يدانيه شيء من البشر، روحًا وذوبانًا في ذات الله وأخلاقًا واستقامة وتقوى، وهذا مثّله معسكر الحسين (ع).
النموذج الثاني، التوحّش، الذي انقلب فيه هؤلاء حتّى على أبسط حالات الإنسانية لديهم، فلا يتورّع الواحد منهم عن أن يذبح طفلًا رضيعًا بين يدي والده، وأن يقطّع إربًا من كان أشبهَ الناس خَلقًا وخُلُقًا ومَنطقًا، برسول الله (ص)، وأن يشفي صدره برض خيل صدرَ الحُسين (ع)، حتّى بعد أن تخمد أنفاسُه الشريفة، وهم يعلمون عقلًا ووجدانًا أنّهم أمام شخص ليس على وجه الأرض ابنُ بنتِ نبيٍّ غيرُه.
كانت حركة السلطة آنذاك قد بلغت في تشويهها هذا الإنسان من الداخل أن تحوّل التشوّه إلى حالة اجتماعية ثقافية، فأصبح الإنسان الذي يعيش في ذلك المجتمع يتحرّك في مسار التشوّه، الذي يفقد فيه الإنسان نفسه كإنسان، ويفقد فيه نفسه كرسالةٍ وقضيّة ودين. هذا الامر الذي وعاه الامام زين العابدين (ع) بكلّ مشاعره وأحاسيسه التي اختزنت كل لحظة من لحظات الألم المضمّخ بالدم، والذي عاش فيه كل حالات الصراخ من داخله، فيما لا يبدو على لسانه إلا ذكر الله وحمده عزّ وجل والاسترجاع، وما إلى ذلك، بحيث يعيش الإنسان الحزن في قلبه، في أشدّ ما يكون الإحساس والشعور، ويعيش التسليم لذات الله سبحانه وتعالى في لسانه، وصبرًا في حركته في الحياة.
بعد كربلاء، يفترض بالإنسان الذي شاهد ما شاهده الإمام زين العابدين (ع)، وعايش ما عايشه، في كل تلك المواقف التي تجرّعها في ظرف مكثّفة من الزمان والمكان والأحداث والمواقف والمشاعر والأحاسيس، يفترض بهذا الإنسان أن يعيش حالةً من الكآبة، وربّما يشعر بأنّه قد اكتفى من الجهاد المفروض عليه. لكنّنا وجدنا هذا الإمام، الذي هو إنسان بالدرجة الأولى، ورساليٌّ في أعلى مواقع الرساليّة، وجدناه تجسيدًا للقائد بعد الحُسين (ع)، يخطّط بفعلٍ لا بردِّ فعل؛ لأنّ ردّ الفعل ينطلق من خلال الانفعال بما يفرضه الواقع والظروف والزمن، ويأخذ مداه من خلال ذلك، ونحن نعرف بأنّ السلطة قد أطبقت بعد عاشوراء أكثرَ من ذي قبل، وأصبح الإنسان لا يستطيع أن يفتح فمه بالمعارضة، وإن كانت الثورات قد تحركت بعد ذلك، ولكن في ذلك الوقت، نعلم بأن المدينة مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله استبيحت، من قبل هذا الجيش، وأصبح الحال - كما قال الحسين (ع) "أما إنّكم لا تقتلون بعدي رجلًا فتهابون قتلَه؛ لقتلكم إيّاي" –. على الرغم من كلّ ذلك وغيره، وجدنا الإمام زين العابدين (ع) يحلّق في أبعاد كثيرة.
البُعد الأوّل، العلاقة مع الله
من أهمّ تلك الأبعاد التي نعرفها، هو إصلاح ما بين الإنسان وبين الله عزّ وجلّ، وهذا الاصلاح كان فيه الإمام (ع) استراتيجيًّا الى مستوى أن جعل الاصلاح حاجة يطلبها الانسانُ في دعائه، وليس مجرّد مفهوم فكريّ يقتنع به الانسان، حتى اذا اقتنع به لا يدري هل يحقّقه أم لا؟ وهل يملك خطة لتحويله الى واقع على الأرض؟ وهل يتفاعلُ معه نفسيًّا ووجدانيًّا؟ الإمامُ (ع) جمع كلَّ ذلك وكثَّفه في الدعاء، حتّى تحوّل الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى إلى حاجة يطلبها الإنسان من ربّه، وتحوّل إصلاح حياة الإنسان مع أبويه وأقربائه وجيرانه، والمؤمنين من حوله، تحوّل إلى طلب يعيش الإنسان إحساسًا وشعورًا، يندمج فيه مع هذا الأمر، والذي يجب أن يتحول إلى شيءٍ جديد في داخل شخصيّته، فيطلبه من الله عز وجل.
كذلك أعاد الإمامُ (ع) للإنسان إحساسه بالكون انطلاقًا من تآخيه مع عالَم الخَلقِ كلّه الذي يتحرّك بإرادة الله، وذلك في مقابل ما صنعه التوحُّش بالإنسان، أن تحوّل إلى إنسانٍ لا يحسُّ بأيّ شيء، ممّا يرتبط بكينونته المتآخية مع كينونة الكون. هنا رأينا الإمام (ع) يوجّه الإنسان إلى الدّعاء مع كلّ ظاهرة من ظواهر الكون من حوله؛ إذا رأى البرق، أو سمع الرعد، وإذا رأى الهلال، وإذا دخل شهر رمضان، وفي يوم الجمعة، والعيد. كذلك كان دعاؤه إذا نُعي إليه ميت، وإذا ذكر النبيّ (ص) وما إلى ذلك..
بناءً على ذلك، كان الدُّعاء كان حركة إصلاحية للذات. هذه الحركة لم تقل للإنسان إنّ عليك أن تصلح نفسك! بل إنّها أدخلت الإنسان فعليًّا في عملية الإصلاح، وجعلته يندمج مع هذه العملية في برنامجٍ صاغه الإمام (ع) في كل فقرة من فقرات الدعاء. ولذلك كان الدعاء في تلك المرحلة حاجة لإعادة إنتاج الإنسان أوّلًا، والإنسان الرسالة ثانيًا، ليُعيد ضخَّ الحياة في النموذج الذي ينبغي أن يحمل الرسالة والإنسانية إلى جيل آخر، بعد أن فرضت عليه السلطة اتجاهًا مشوّهًا للذات.
كان هذا الدعاء وسيلة خطّط الإمام لها، وجعله استراتيجيّة أساسيّة من أجل أن يحقّق هذا المسار الإصلاحي في حركة الأمّة، ولم ينطلق فيه كردّ فعلٍ على حالة خاصّة، أو كانفعالٍ نفسيّ محدود مع حدثٍ له ثقله النفسيّ الكبير على الذات، كعاشوراء. وهذا هو ديدن الإنسان الرساليّ دائمًا؛ قد ينفعل بالأحداث، وقد تفرض عليه الظروفُ كثيرًا من الخيارات، لكنه عندما يختارُ فإنّه يأخذ مسافةً منها، ثم يختار ما هو الأقربُ إلى مبادئه وإلى قيمه، وأيضًا الأقرب إلى أهدافه وغاياته التي يسعى إليه. نستعيدُ من السيرة موقفًا صغيرًا لأمير المؤمنين علي (ع)، في معركة الأحزاب، عندما صرعَ عمرًا بن عبد وُدّ العامري أرضًا وأرد أن يجهزَ عليه، يقالُ إنّ عمرًا تفلَ في وجهه أو سبَّ أباه، فغضبَ الإمامُ (ع)، فأحجَم عن الإجهاز عليه، ثمّ رآه المسلمون يتمشّى، وإذا به يعودُ ليُجهز عليه. فلمّا سُئل عن ذلك قال لهم إنّه غضبَ عندما صنعَ معه ذلك، فلو قتلتُه في تلك الحالة لكانت ردّ فعلٍ وانتصارًا لنفسي، وأنا لا أريدُ أن يكون في قتلِه شيءٌ لغير الله.
ونحن عندما نعيش في أيّامنا محنًا، فلا بدّ من أن نُدرك أنّ هذه المحن ستخلق تشوّهات في كثير من الناس، الذين لا يعودون يدرون ما هي مفاهيم الإسلام، وما هي قضايا الإسلام، وما هي مبادئ الإسلام، وما هي خطوط الإسلام، وما هي استراتيجيات الإسلام، وبالتالي، عليهم أن يعيدوا تصويب الأمور. هذا الدعاء لا يزال موجودًا كمنهج، وربّما كانت المرحلة ذاتها التي عاشها الإمام زين العابدين (ع) مشابهة في كثيرٍ من أشكالها وأوضاعها لما نعيشُه اليوم، وبالتالي فسلاح الدّعاء الذي بين أيدينا هو سلاح استراتيجي، إذا ما أردنا الإجابة على سؤال: كيف نتفاعل مع الحالة التي نحن فيها من المحن، والقتل، والتشريد، والآلام، وربّما، كربلاء الجديدة التي نعيش فيها شيئًا من كربلاء التاريخ بشكل وبآخر.
البُعد الثاني، إعادة رسم قواعد المجتمع الإسلامي
البعد الثاني كان البُعد الحقوقي. وقلّما يتحدث عن هذا الجانب، حتّى لو بحثنا عن شروحات لرسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع)، قد لا نجد الكثير فعليًا، وبعض شروحاتها غرّدت بعيدًا، واستطردت كثيرًا في لا يدخل في صلب الهدف والغاية التي أرادها الإمام (ع) من خلال رسالة الحقوق.
رسالة الحقوق تمثل، الحدود، التي ترسم طبيعة حركة العلاقات لتنتظم، في تمثيلها للبُعد الإيجابي، وتمنع عنها الحالة السلبية، ونحن نعرف أنّ كثيرًا من المنافذ التي نفذت من خلالها السلطة الجائرة إلى الناس إنّما كانت من خلال ضياع هذه القواعد والحدود، بحيث لا يُدرى عندئذ ما هو الفرقُ بين عليّ (ع) ومعاوية، وبين الحسين (ع) ويزيد، وكيف يمكن التمييز بين النموذج الذي يؤدّي حقوق الله المتجلّية في كثيرٍ من حقوق الناس، ومن لا يؤدّيها.
وكلُّ شخصٍ يعبّر عن نفسه بعنوانٍ في المجتمع، ويؤدّي دورًا ما، فكيف يمكن أن نعرفُ أنّه يؤدّي دوره كما يجبُ إن لم نعرفْ ما الذي عليه أن يؤدّيه. رسالة الحقوق رسمت المعايير التي نقيسُ على أساسها الأشخاص والأفعال والأدوار وما إلى ذلك. فمن حقّ الله الأكبر ترتسمُ حقوق النّاس، حقّ القرابات، وحقّ المعلّم، وصاحب السّلطة، والمالك، والعامل وما إلى ذلك.
بالنتيجة يرسم الإمام زين العابدين (ع)، من خلال هذا البُعد الهامّ، الحدودَ الفاصلة بين من يحوز على القيمة في أداء الحقوق، بدءًا من حقّ الله تعالى، الذي يتجلى في مستويات العلاقات ومستويات الحياة كلها، إلى أدنى تفصيل في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وبين من لا يؤدي هذه الحقوق. هل يمكن عندئذ أن يخلط إنسان بين نموذج علي (ع) ومن وقف في وجهه؟ بين نموذج الحسين (ع) ويزيد؟ بين نموذج الأئمّة من أهل البيت (ع)، ومن يقف في مقابلهم؟!
البعد الثالث، إعادة إحياء مرجعيّة الإسلام
البعد الثالث الذي عمل عليه الإمام زين العابدين (ع) يمثّل إعادة وصل للناس بالمرجعية الفكرية الأصيلة؛ لأنّ بني أميّة أرادوا، نسخةً جديدة من الإسلام، تسمّى الإسلام، لكنَّ مضمونها العصبيّة الجاهليّة وهوى السلطان ولغة المصالح التي تشتري ذمّة هذا وذمّة ذاك، والتي تعتمد السياسة غدرًا وفجورًا، لا خدمةً وإصلاحًا. ولذلك قيل لعلي (ع) في زمانه، إنّك لست كمعاوية! وأنت في موقعك لا تحسن العمل السياسيّ، معاوية يسخّر المال لخدمة أهدافه؛ فهلّا دفعتَ قليلًا مما هو موجود تحت يدك من بيت المال؟ كان جواب عليّ (ع): "أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور؟! فوالله ما أطورُ به ما سمر سمير، وما أمّ نجمٌ في السماء نجمًا. أما لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف والمال مالُ الله؟ّ!"، وقال لهم: "واللهِ ما معاوية بأدهى منّي، ولكنّه يغدر ويفجُر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس"، وقال لهم: "قد يرى القُلَّبُ وجهَ الحيلة"، فعندي كفاية عقلٍ وذكاء ووعي لأفهم الواقع جيّدًا، وأدرك دقائق الأمور، وأعرف من أين تؤكل الكتف، "ودونها مانعٌ من أمر الله ونهيه، فيدعها رأيَ عينٍ، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين".
هذا هو النموذج، الذي أعاد الإمام زين العابدين (ع) إنتاجه في الأمّة. عبر ماذا؟ عبر إعادة وصل الناس بالمرجعية الفكرية للإسلام، وهي كتاب الله وسنّة رسول الله (ص)، من خلال إعداد النُّخبة من فقهاء الدّين والشريعة. وقد تلمّذ على يديه، لا من يعتقد بإمامته فحسب، بل من لا يعتقدون بها كذلك، وكانوا يقولون عنه إنّه ليس هناك في المدينة من هو أفقه منه - كما يقول الشافعي -. وفي رواية سفيان بن عيينة يقول: قلتُ للزهري: لقيتَ عليّ بن الحُسين (ع)؟ قال: "نعم، لقيته، وما رأيتُ أحدًا أفضل منه. والله ما علمت له صديقًا في السرّ، ولا عدوًّا في العلانية، قيل له: وكيف ذلك؟، قال: لأنّي لم أر أحدًا، وإن كان يحبُّه، إلا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً - وإن كان يبغضه - إلّا وهو لشدّة مداراته له يُداريه"[1]، حيث كانت أخلاقه توجب الحسد من القريبين منه، ومداراته من البعيدين عنه.
ذلك لأن الجاذبيّة التي للإمام زين العابدين (ع)، والتي هي مستمدّة من حالة القرب من الله عزّ وجلّ، بما ينعكسُ جاذبية روحية وفكرية وأخلاقية.
تجسيد القيمة في أعلى مستوياتها كان الأساس العملي الذي يأسر الناس. تذكر كتب السيرة أنّه بعدما حصل في كربلاء ثار أهلُ المدينة على الأمويّين وطردوهم منها، وأراد مروان بن الحكم أن يستودع أهله وأولاده، ويأمن عليهم عند من يحميهم من القتل والتّشريد، فلم يقبلهم أحدٌ، فضمّهم الإمام زين العابدين (ع) إلى عياله، وحماهم بكنفه، وأحسن إليهم، ودافع عنهم، ولم يدع أحدًا يصلُ إليهم بسوء. ومروان هذا كان من أشدّ الناس على الإمام الحسين (ع) عندما طُلب منه البيعة عشيّة موت معاوية وطلب البيعة لولده يزيد[2].
والإمام (ع) يعطي القيمة التي ليس فوقها قيمة، وذلك بقوله: "عليكم بأداء الامانة، فو الذي بعث محمّدًا بالحقّ نبيًّا، لو أن قاتل أبي الحسين بن علي (عليهما السلام) ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيتُه إليه"[3]
وفي دعائه في مكارم الأخلاق، نجدُ تشريحًا للشخصية الإسلامية التي تمثل برنامجًا عمليًّا للإنسان في المبادرة الأخلاقية التي لا تنتظر الآخر لتقوم بردّ فعلٍ على الطريقة التجاريّة التبادُليّة، بمعنى تعطيني وأعطيك. الإمام (ع) يقول: "وسدّدني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبِرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصِّلة، وأن أشكر الحَسَنة، وأغضيَ عن السيّئة"[4]. والذي يقرأ هذا الدعاء، ويسمعُ قول رسول الله (ص): "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، والاحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك"[5]، يعرفُ المعين الذي ينهل منه، ويعلمُ أنّه الامتداد الحقيقيّ للنبيّ (ص)، وليس أيّ شخصٍ آخر يتسمّى باسمه، أو يجلس مجلسه.
إذًا، ما فعله الإمام زين العابدين (ع)، هو عمليًّا ثورة فكريّة أخلاقيّة روحيّة، لها تخطيطُها الإستراتيجي الدقيق، لتكون هي الإكمال والإتمام لثورة الحسين (ع) في كربلاء. وهذا هو الانتصار الذي تمّت فصولُه في مرحلة ما بعد كربلاء. بالمعنى السياسي، قد يتمُّ تشخيصُ تلك المرحلة بأنّ المؤمنين فيها أذلّاء، وأن الواقع هو لبني أميّة، وأنّ الطغاة قد انتصروا على جبهة الحقّ؛ ولكن عندما تنظر إلى الزمن في امتداداته، وتجد حركة زين العابدين (ع)، التي ربما لم يفهم كثيرٌ من الناس آنذاك خطوطها ومفاصلها، ستجد المسألة مشهدًا آخر.
من زمان الإمام (ع) إلى زماننا
وهذا فعليًّا هو درس لنا في واقعنا الذي نعيش فيه، حيث قد يجد المتأمل، في مرحلتنا التي قد نعيش فيها كثيرًا من مشاعر الألم والندم والحسرة على كثير من الفُرص التي كانت قائمة وذهبَت بها الظروف، أو على أخطاءٍ وقعت هنا وهناك بدّلت الأرضَ غير الأرض والواقع غير الواقع؛ بدلًا من أن نقف وندير وجوهنا إلى الخلف، قد نستطيع اليوم أن نقول إنّ الحاجة التي يفرضها الواقع الآن، هي ذاتها الحاجة التي كانت بعد كربلاء. قد لا نحتاج إلى خطّة جديدة، بقدر ما نحتاج إلى الأمور الثلاثة التي أشرنا إليها.
أوّلًا: إعادة وصل الناس بالمرجعية الفكرية الأصيلة، وهي كتاب الله وسُنّة رسول الله (ص)، وسيرةُ أهل البيت هي سنّة رسول الله، وليست شيئًا آخر، وهي امتداد سنّة النبيّ (ص) في مدى الزمن، فعرفنا من خلال ذلك ما يريد رسول الله، وما كان يقول، وكيف كان يقف؛ عرفناه في امتداد حركة الأئمة (ع). يحتاج الناس إلى أن يفهموا إسلامهم من جديد؛ لأنّنا في عصر اختلاط المفاهيم، وفي عصر الذكاء الاصطناعي، ووسائل التواصل الاجتماعي التي تكثَّفَ فيها الضلال والباطل الى مستوى أصبح فيه غير قابل للسيطرة، حتى من قبل أكبر النُّخب ومن أكبر المؤسَّسات، فما بالك بأبنائنا وبناتنا، حيث نراهم باتوا في هذه الأيام يسألون عمّا كان في الماضي بديهياتٍ.
اليوم قد يرى البعضُ عدم الحاجة في الحديث حول بعض الأمور، باعتبار أنّه يراها بديهيّة؛ لكنَّها كذلك في زمانٍ مضى، أمّا الآن، فعندما نستمع إلى كثير من الأسئلة، نُدرك أنّ كثيرًا من أبسط البديهيّات هي في محلّ شكّ؛ وإذا كان الأمر كذلك، فلا خروج من هذه الحالة من الشكّ إلا بإعادة الوصل بالمعدن الأساس وبالنبع الكبير للإسلام، هذا النبع هو الذي يقول للإنسان كيف له أن لا يعيشَ الحزنَ والهمّ والقلق، وكيف له أن يستنزل السكينة وهو في عمق حالة الاهتزاز، كيف يقول الإنسان لصاحبه (لا تحزن إنّ الله معنا)[6]، وكيف يطلب من الله أن يؤيّده بجنودٍ لا يراها عندما يجعل قضيّته القضية الكبرى، وليس قضية شخصيّة ذات منفعة صغيرة هنا أو هناك، وكيف له أن يتحرّك بالموقف الأخلاقي حتّى لو كانت الحياة كلّها ضدّه، وكيف يعبّر عن حركته في مشروعٍ كبير، ورسالةٍ شاملة، وأنّ عليه أن يقدّم حسابه لله تعالى، لا إلى هذه الجهة أو تلك. هذا هو الذي يعيد إنتاج، المسار الحقيقي التفصيلي الذي ربّى الله سبحانه وتعالى عليه عباده الصالحين، الذين كانوا مع رسول الله (ص) في حركته وفي دعوته، وهذا الذي ثبّت به الله المؤمنين.
ثانيًا: إعادة شحن ال الإنسان روحيًّا في زمن توحّشت فيه المادّية إلى المستوى الذي بات فيه الإنسان لا يشعر بأن لديه بُعدًا آخر لوجوده، فلا يشعر بالنفخة من روح الله فيه، فإذا هو يرى نفسه فقط جسدا في غريزته وحاجاته المادية التي لن يشبع منها مهما حصل عليها، هذا الإنسان يحتاج إلى روح ترفعه عن مصافّ المادّة وزنازينها، وهذا لا يكون إلا من خلال أدب الدعاء وثقافته
ثالثًا: نحتاج، في زمنٍ أصبح الإنسان فيه فردًا، حيثُ حدودُه هي حدود فرديّته وأهوائه ومصالحه،
أما عند الآخرين فليس لديه حولها أي كلام عن الحدود أو عن الحقوق أو ما إلى ذلك، أصبح الإنسان لا يشعر بأن بما يقوله الأدب الموروث "مَن علّمني حرفًا صرتُ له عَبْدًا"، أو ما يقوله الشاعر في حقّ المعلّم: "قُمْ للمُعَلّم وفّهِ التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا".. نرجع إلى روح "رسالة الحقوق" للإمام زين العابدين (ع)، لنرسم من خلالها الحدود في العلاقات، في شبكة تبدأ من "حقّ الله الأكبر"، لتصلَ الفردَ بالجماعة التي من خلالها نجاة الفرد في الدُّنيا، وبها استقرار الجماعة من خلال ما يعطيه الفردُ للجماعة من طاقةٍ وإبداع.
لذلك نقف اليوم، أمام ذكرى الإمام زين العابدين (ع) من أجل أن نستعيد هذا المعنى، ومن خلاله لنصل ذلك التاريخ بواقعنا الذي نعيش فيه، لنقول إنّ مسؤولياتنا اليوم هي مشابهة لهذا المخطّط الاستراتيجي العميق، الذي أخذ الإسلام كلّه، وأعاد شحن الواقع آنذاك فيه، به من خلال هذه المسارات والأبعاد، لنفهم ذلك بعمق في ظروفنا التي نعيش فيها. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا، بما يُعين به الصالحين على أنفسهم، إنّه أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.
ألقيت في مركز أهل البيت (ع) – لندن
بتاريخ 12 تمّوز 2025م.
[1] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 10، ص 175.
[2] انظر: كتاب وقعة الطفّ لأبي مخنف، تحقيق الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي، ص 94.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ج1، ص 319.
[4] الدعاء العشرون من أدعية الصحيفة السجاديّة.
[5] المجلسي، بحار الأنوار، ج66، ص 397.
[6] سورة التوبة، الآية 40.