السؤال والجواب في مسيرة السيّد فضل الله (ره)

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وسلّم.

وبعدُ، فقد كان للوالد السيد محمد حسين فضل الله (ره) اهتمامٌ بالغٌ بالاستفتاءات التي تردُ إليه، وهو صاحبُ الكلمة التي كرّرها مرارًا: "ليس هناك سؤالٌ تافه، وليس هناك سؤال مُحرجٌ. الحقيقة بنتُ الحوار". هكذا يمكن أن يجد المتأمّل في هذه الكلمة رؤية السيد فضل الله (ره) لأهمّيّة السؤال، في أنّه رحلةٌ بين السائل والمجيب في رحلة البحث عن الحقيقة، وإذا كان السؤال يعكسُ حاجة المعرفة للسائل، فإنّه يشكّل أكثر من إضافةٍ إلى المسؤولِ في أكثر من جانبٍ، أقلّه أنّه يؤمّن له معطياتٍ على كيفيّة اشتغال عقل المجتمع المتلقّي للمعرفة، وما الذي يثير انتباهه، وما هي موارد اهتماماته...

وأسرد هنا قضيّتين أو حادثتين ذكرهما الوالد:

الأولى: أنّه أتاه – وهو في منطقة النبعة شرقيّ بيروت - شخصٌ يرجع في الفتوى الشرعيّة والتقليد للسيد محسن الحكيم (ره) الذي كان يُفتي بنجاسة أهل الكتاب، وكان هذا الشخص عاملًا عاديًّا، فسأله عن رأي السيد الحكيم فأجابه، ثمّ أردفَ سائلًا: هل يجوز الزواج من الكتابيّة؟ فأجابه السيد فضل الله عن جواز ذلك في رأي السيد الحكيم، فقال له السائل متعجّبًا: كيف ذلك؟!

يعلّق السيد فضل الله على هذه الحادثة ويقول: إنّ هذا الإشكال الذي بدا في ذهن الإنسان العاديّ هو ذاتُهُ الذي خطر في بال المرجع لاحقًا، ودفعه إلى تغيير فتواه من النجاسة إلى الطهارة، وأضافه في ذيل بحثه في كتابه "مستمسك العروة الوثقى" في طبعةٍ لاحقة للإصدار الأوّل. طبعًا من الواضح أنّ تفاعل العالِم المختصّ مع السؤال ومسار الإجابة عليه يختلفُ عن الإنسان العاديّ غير المختصّ؛ إذ هو يشكّل لدى الأوّل مسارًا علميًّا في اختبار النصوص مع الإشكال، وبالتالي بناء الرأي الجديد على مسار تفكيرٍ جديد.

الثانية: أنّ السيد فضل الله أرسل أكثر من مرّة إلى السيّد الخوئي (ره) يقترح عليه إعادة نظره بالنسبة إلى رأيه في تنجيس المتنجّس، مُلحًّا الطلب عليه في استفتاءين على ما في بالي، إلى أن جاءه الردّ في أن هذه المسألة أشبعت بحثًا ولا حاجة إلى إعادة النظر فيها. وقد نُشر ذلك في كتاب "منية السائل".

ما رُمت الإشارة إليه هنا هو أنّ هذا انعكاسٌ لوظيفة هامّة من وظائف السؤال، حيث لا يكون دورُ الوكيل – حيث السيد فضل الله كان وكيلًا مطلقًا للسيد الخوئي – هو إرسال السؤال وتلقّي الجواب، وإنّما المساهمة في عكس مشاكل الواقع للمكلّفين، بما يجعله واسطة في نقل الجانب التطبيقي لفتوى المرجع في حياة الناس، ما قد يدفعه إلى إعادة النظر نتيجة العلاقة الجدليّة بين النظريّة (الفتوى) والتطبيق. وأعتقد أنّ هذه المسالة لا بدَّ من أن تشكّل جزءًا من مسؤوليّة الوكلاء؛ ولا سيّما أن مشاكل الحياة المعاصرة تكبر وتتعقّد، وأنّ جعل الموضوع حركةً من أعلى إلى أسفل فقط، دون وجود أيّ تغذية راجعة – بطريقة مباشرة أو غير مباشرة – من الأرض إلى موقع المرجعيّة، يُفقد هامشًا من المرونة قد يملك الفقيه تحريكه إذا ما توافرت لديه معطيات ذات قيمة لطبيعة الإشكاليّات التي تفرضها فتواه على أرض الواقع.

لا أريد أن أسترسلَ هنا، بقدر ما أردتُ الإشارة إلى طبيعة نظرة السيّد فضل الله إلى السؤال والاستفتاء والاستفهام وأهمّيته، وهو ما مارسه عمليًا قبل تصدّيه للمرجعيّة وبعدها، وأذكر تجسيد ذلك لديه في عدّة نقاط:

أوّلًا، أنّ السيّد فضل الله أفرد مساحة للسؤال والجواب بعد درس تفسير القرآن الأسبوعيّ، وقد حضرتُ ذلك منذ بداية وعيي في ثمانينيّات القرن الماضي، وكان هذا ديدنه مع أجيالٍ من قبل، منذ انتقاله من النجف إلى لبنان في العام 1966م. وفي قسم الأسئلة والأجوبة كان يجيب عن أيّ سؤال، حتّى فيما يرتبطُ بشؤونه الشخصيّة، معتبرًا أنّ الشخصيّة العامّة لا تملك أن تبني سورًا حول خصوصيّاتها التي تتّصل بنظرة الناس وثقتهم، وذلك عندما يحتكّون بما يخلق لديهم سؤالًا حول ما يسمعه الناس من تلك الشخصيّة العامّة وما يجدونه من ممارستها على الأرض. أذكرُ يومها أسئلة وُجّهت إليه حول إهداء شخصٍ له سيّارة مصفّحة ضدّ الرصاص، وكأنّ في ذلك إقبالًا على المظاهر الدنيويّة في نظر الناس، فسأله السائل، وأجابه السيّد (ره) بكلّ رحابة صدر، ما عكس – في شكلٍ غير مباشر – فرصةً لتثقيف الناس الإنسان بالنظرة الإسلاميّة تجاه الوسائل التي تفرضها الظروف من دون أن تعكسَ شيئًا في جوهر توجّه العالِم الديني النفسي والروحي تجاه الدُّنيا، والتثقيف عبر التجربة الحيّة يثبُت في النفس أكثر من الكلام المجرّد عنها.

ثانيًا، كان السيد فضل الله يتلقّى الاتصالات الهاتفيّة بشكل مباشر، ولم يكن في هذا انتقائيًا، وإنّما يستطيع أيٌّ كان أن يتّصل به ويسأله. وكان يهتمُّ للإجابة على بعض المثقّفين والمؤثّرين، والذين تتراكم عليهم الأسئلة النوعيّة في زمنٍ كان يشهد تحوّلات كثيرة في الساحة الفكريّة، حتّى أنّ بعضهم صار لديه ما يُشبه الموعد الأسبوعي، ليطرح أسئلته بشكل دوريّ من خلال الإشكالات التي يجمعها وتدور حوله.

ثالثًا، بعد الصلاة اليوميّة كانت يجلس السيّد على أرض المسجد مواجهًا المصلّين الذين يتحلّقون حوله ليسأل كلٌّ منهم عمّا بدا له، ولم يترك تلك العادة إلّا بعد استهدافه أمنيًا، فكان يخرج من الصلاة إلى غرفةٍ تابعةٍ للمسجد ويستقبل السائلين واحدًا تلو الآخر، صغارًا وكبارًا، وكان لا يتعقّد من أيّ سؤالٍ، ولا سيّما تجاه الحملة الظالمة التي استهدفته في آرائه لتحرف وجهتها، وكان الناس حطبًا لها في إدخالهم فيما لا يملكون ثقافة الخوض فيه بعمقٍ، ومع ذلك كان السيد يجيبُ بمقدار ما يتّسع استيعاب السائل؛ لأنّه يرى ذلك مسؤوليّة في رفع وعي السائل حتى لا يُخدع عن حاله.

رابعًا، كان السيد فضل الله (ره) من أوائل الذين أنشأوا موقعًا على الانترنت، وربّما يكون أوّل مرجعيّة دينيّة دخلت هذا العالَم، وكان يتلقّى يوميًا عشرات الاستفتاءات الفقهية والعقدية والمفاهيمية وغيرها في اليوم الواحد، قد يصل إلى مائة ومائتين وربما أكثر في بعض المناسبات، كشهر رمضان والحجّ، وكان يجيب عليها مكتب الاستفتاء، ومن ثمّ يلاحظ السيد (ره) الأجوبة ويقرّها أو يعدّلها وأحيانًا يغيّرها بالكامل.

السيّد (ره) كان حريصًا على وصول الأجوبة إلى المستفتين خلال 24 ساعة إجمالًا. من الأمور اللافتة في هذا المجال أنّه كان يذهب أسبوعيًا إلى مكتبه في منطقة السيّدة زينب (ع) في الشّام، حيث كان ديدنُه أن يرتاح قليلًا بعد صلاة الجمعة، ثمّ يصطحب معه الاستفتاءات المُجاب عليها من مكتبه ويراجِعُها في السيارة خلال الطريق، حتّى إذا وصل إلى الحدود اللبنانية السورية كان يُرجعها ملاحَظَةً مع بعض المرافقين الذين كان دورهم الوصول إلى الحدود ثمّ العودة إلى بيروت؛ فقط لأنّه لا يُريد أن يؤخّر الأجوبة على طالبيها حتّى يوم الإثنين. عمليًا يتأخّر فقط الاستفتاءات الواردة يومي السبت والأحد إلى الإثنين.

وفي موازاة ذلك، أذكر أنّه كان لدى السيّد (ره) جهاز فاكس في مكتبته الخاصّة، وفي أحد الأيّام اقترح عليه مدير أن ينقل الفاكس إلى مكتبه ليتابع، ورفض السيّد (ره) رفضًا قاطعًا، وكان حريصًا على أن يبقى له تواصل مباشر، والاستفتاءات التي تردُ عبر الفاكس كان يجيب عليها بخطّ يده، ووظيفةُ المساعدين هي إرسالها إلى أصحابها.

وما يجدر ذكره في هذا المجال، أنّه خلال حرب عام 2006م، وكان أن قُصفَ منزلُه، وانتقل إلى مكانٍ آخر في العاصمة بيروت، وكان إصرارُه على متابعة الاستفتاءات الشرعيّة عبر الانترنت، وكان يتلقّى الاستفتاءات مكتبٌ أنشئ في مكانٍ منفصلٍ عن سكن السيّد (ره)، وكان الإخوة فيه يطبعونها ثمّ يرسلونها إليَّ، وكنتُ أقترحُ الإجابات، ثمّ يأتي أحد المرافقين وأسلّمه الأجوبة ليوصلها إلى السيّد (ره) للملاحظة، ومن ثمّ إرسالها إلى السائلين عبر المكتب.

خامسًا، في موسم الحجّ كان لديه موعد يوميّ مع الوفود، وكان يُلقي محاضرة في كلّ وفدٍ انطلاقًا من خصوصيّات مجاله الاجتماعي، وكذلك ما يهمّه بيانه من معاني الحجّ، وكان يفتح الأسئلة لأكثر من مرّة في اليوم الواحد.

وأذكرُ أنّه عندما كان ينزل إلى المسجد الحرام، كنّا نقول له أن يتخفّف من العمامة، حتّى لا يتميّز فيخلو لنفسه وعبادته، فيقول لنا: لماذا نحنُ هنا؟! فينزل بعمامته ولا يكاد يسمح له توافد الناس عليه للسؤال بأن يخلو لنفسه إلّا ما يتّسع للصلاة. هذا كان يحصل بعد كلّ مسار الجهد الذي يبذله يوميًا في التواصل مع الناس والوعظ والإرشاد والأسئلة والأجوبة.

أخيرًا، كان حريصًا على أن لا يكون الجواب على أيّ سؤال مقتصرًا على الجانب الفقهي فحسب، أو على قد ما يكفي تقنيًا في الجواب، بل يضيف إليه نوعًا من ثقافة الفتوى، تبعًا لملاحظة طبيعة السائلين في حاجاتهم المعرفيّة.

ربّما لا يبالغ المرء أنّ حركة السؤال والجواب لدى السيد فضل الله (ره) يمكن أن تكون موضوع أطروحة بحثيّة في حدّ ذاتها، وذلك لاختصارها جزءًا من حياة فقيه داعية لم تكن المرجعيّة الفقهيّة سوى أداةً للدعوة إلى الله، في تقديم النموذج الحيّ في مسيرة سدّ الحاجات المعرفيّة والروحية والنفسية للناس عبر تفاعل السؤال والجواب.

وفي الختام أحبّ أن أطلّ على هذا الكتاب الذي بين أيدينا (استفهامات واستفتاءات مع المرجع الديني العلّامة السيد محمّد حسين فضل الله، لمؤلّفه سماحة الشيخ حيدر حبّ الله)  في عدّة ملاحظات.

الأولى، أنّ الكتاب انعكاسٌ لكثيرٍ من الأبعاد التي أشار إليها المؤلّف الأخ العلّامة الشيخ حيدر حبّ الله أيضًا في علاقة المُفتي بالمستفتي، والمجيب بالسائل، وهنا نلمحُ تأثيرًا إيجابيًا أو سلبيًا تبعًا لطبيعة هذه العلاقة، وهذا ما يفتح بابًا للحديث عن ضرورة استبطان شخصيّة الداعية إلى الله في كلّ المواقع التي يشغلها الفقيه، ولعلّي في هذا أستحضر قول الله تعالى للنبيّ (ص): (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربّك بالغداة والعشيّ يُريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تُريد زينة الحياة الدينا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمرُهُ فُرُطًا)/ [الكهف: 28].

الثانية، يعكس الكتاب شخصيّة المؤلّف، في مسار دراسته الحوزويّة، في متابعة أي سؤال يخطر في بال الطالب خلال دراسته، وكيف يتابع الطالب الجادّ كلّ سؤال يخطر في باله، كما يعكسُ تطلّعاته الفكريّة في تلك المرحلة.

وأحسبُ أن صفة الموضوعية تبدو لي في أصل النشر؛ لأنّ السؤال في حدّ ذاته حاجةٌ للمعرفة، وكثيرٌ من الناس قد لا يسألون أنفةً من إبداء هذه الحاجة حتّى في مراحل سابقة يبدو فيها السؤال طبيعيًا جدًّا؛ والحال أنّ المؤلّف قد ذهب به الشوطُ بعيدًا وعميقًا في إنتاج المعرفة وأصبح من أصحاب الرأي والمسألة، ومع ذلك لا يجد حرجًا في نشر ذلك في هذا الكتاب.

أمّا الأمانة العلميّة فهي صفة بارزة لمن يعرف المؤلِّف، ويهمّني تأكيد ما أكّده، وهو السياق الذي صيغت فيه الأجوبة بناءً على آراء فقهاء آخرين، ممّا نعلمُ أنّ للسيّد فضل الله (ره) رأيًا مخالفًا، أو على الأقلّ أنّ رأيته تغيّر لاحقًا، ولعلّ من الضروري الإشارة إلى ضرورة توخّي القارئ الحذر في اعتبار كلّ جوابٍ واردٍ في الكتاب بمثابة رأي للسيد فضل الله، وهذا الأمر ذكره المؤلّف في مقدّمته إضافة إلى نقاط أخرى يلزم مراعاتها.

الثالثة، أحبّ أن أذكر أن الكتاب يعكس كذلك أدب السائل، سواء في أسلوب السؤال أو في الإشكالات التي يشير إليها إشارة أو يلمّح لها تلميحًا، حتّى في بعض الموارد التي يشير فيها الكاتب إلى توقّعه استفاضةً في بعض الأجوبة.

كما تعكس بعض الأجوبة أدب المُفتي وأخلاقيّته ورحابة صدره، سواء في توضيح السبب الذي يكمن في الاقتضاب أحيانًا، ومدح السائل على وعيه الفكري والفقهي، وعلى غيرته الإسلامية على الحوزات، من دون أن يفوتنا الإشارة إلى تعبير السيّد (ره) موافقته على فكرة يطرحها السائل هنا وهناك.

الرابعة، عرفان مودّة وتقدير للأخ الشيخ حيدر على حُسن ظنّه وتواضعه العلمي والأخوي، في الطلب إليّ في أن أكتب مقدّمة لكتابه، وهو في غنًى عن ذلك. على أنّني أرى لزامًا عليّ شكره على إتاحة الفرصة لي للكتابة عن بعض ما عايشتُه من حياة الوالد (ره) في الجانب الذي يعكسه الكتاب، والذي أشعر بأنّ من المفيد مشاركته مع القارئ الكريم، حيثُ يقدّم نموذجًا حيًّا لأخلاقيّة العالم في تفاعله مع حاجات الناس المعرفيّة، إضافة إلى الحاجات الأخرى؛ وإنّني أسأل الله تعالى أن يكون هذا الكتاب موضعًا للنفع على أكثر من صعيد؛ والله المسدّد لكل صواب، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

أخيرًا: أضفتُ بعض التفاصيل القليلة على أصل المقدّمة عندما عزمتُ على نشرها على شكل مقالة في الموقع الالكتروني، والله وليُّ التوفيق.

جعفر محمّد حسين فضل الله

تاريخ كتابة المقدّمة: 21 ذو الحجّة 1446هـ، الموافق لـ 17 حزيران 2025م

Next
Next

أبعاد حركة الإمام عليّ بن الحُسين (ع) بعد عاشوراء