أيُّ عصرٍ نعيش؟ وأيُّ جيل له؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
نجتمع اليوم وربما يخطر في ذهن كل منا فكرةٌ تقول: أنّ قدرنا أن نحتفي متألمين، وأن تتآخى البسمة مع الدمعة، لأننا بتنا نعيش في عالم تملؤه الذئاب، ويُراد لنا أن نعيش فيه خرافاً تقدّم نفسها للذئب، وتطلب – عندما تُغسَل أدمغتها – من الذئب أن لا يرحمها.
نعيش في عالم يريدنا أرقامًا تدخل في جيوب الشركات الاحتكارية، و مستخدمين لكل التقنيات التي ينتجها في كل لحظة. ويعدّ الإنسان الذكاء الاصطناعي ليقوم بإنتاج غير متناهٍ لما يُشغل الإنسان في التطبيق والاستهلاك، فنكون نحن المستهلكين لذلك ومن ثمّ نمدّه بكل ما يريد من معرفة ليستعلي علينا أكثر، ويستكبر فوقنا بما يصل به إلى مستوى يقول فيه – كما قال فرعون –: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ)[1].
يهيّئوننا لهذا النوع من العبوديّة الذي يسحق فيه نفسه سجوداً وخضوعاً لكل الإملاءات التي تُزيَّن بأشكال شتّى وتُنمَّق بكلماتٍ ذات معنًى جميل وتطبيقٍ متوحّش، كلماتٍ تعسّلُها ألسنةُ أقوامٍ في بدلات الحضارة!
هكذا تُغسَل أدمغة الأجيال والبشريّة لتخدم جزءاً من هؤلاء البشر الذين حدّثونا في بعض أفلام الخيال – الذي يريدونه حقيقة – عن "المليار الذهبي" أو "المليون الذهبي" – ربّما -، والذي هو المتبقّي من البشر بعد إفناءِ مَن أو "ما" لا حاجة له منهم، أولئك الذين يستثمرون كل ثروات الأرض ويتحركون ليقهروا كل من يقف في طريقهم!
من لم يبايع على العبوديّة فله هذا النموذج
ننتصر على ذلك ونحن نذرفُ الدّمعة على تلميذٍ شهيد فقدناه قبل أكثر من عام، أو تلامذةٍ شهداء بالأمس في بنت جبيل، أو لا نزال في كل يوم نفقدهم بصمتٍ وتعتيمٍ إعلاميّ وسياسيّ في فلسطين، في إبادة موصوفة في هذا العصر يراد لها أن تتحرّك لتكون الأنموذج الذي يقول للناس: من بايع على العبوديّة "فقد" يكون له هذا، ومن لم يبايع على العبوديّة لنا فله هذا الذي قد لا ترونه الآن، لأن أجهزة الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي قطعت عن نقل لنا ما يجري في أرض فلسطين، ولكن ستشاهدونه بعد أن تُمحى من الأرض كل آثار البشر وكل إمكانيّات الحياة!
ولذلك عندما نقف لنحتفي بدفعة من طلاب العلم في مؤسّساتنا ومدارسنا – ولا أتحدّث هنا عن مؤسّساتنا التي نحن في صرح من صروحها بما ينتمي الى المجال الخاص، بل كل مجال ينطلق من أجل أن يكون العلم لخير الإنسان – ليكون العلم لنفع الإنسان وصلاح الحياة، وهو القاعدة التي تبدأ بتعريف الإنسان إلى ربه، لتكون هذه المعرفة أساسًا لكي لا تسجد جبهته لغير الله جلّ وعلا.
من يسجد لله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يسجد لا لصنم حجري في التاريخ، ولا لصنم بشري في التاريخ ولا الحاضر، فردًا أو جهة أو دولةً، ولا لصنم قد يلوحُ قادمًا على صهوة الذكاء الاصطناعي والرقمنة، في تخطيط يعدُّ البشريّة للخضوع لآلهة المستقبل!
العلمُ للخير
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: "يا موسى تعلّم الخير وعلّمه الناس، فإني منوّر لمعلمي الخير ومتعلميه قبورهم حتى لا يستوحشوا بمكانهم.". إنَّ تعلُّم الخير ِهو المعادلة التي تجمع بين العلم والعمل والقيمة، ومن دون هذه الثلاثية سنجد بأن العلم يتحول إلى شيء لا يبعث على الإعجاب ولا على القيمة، وقد يتحوّل إلى شيءٍ قبيحٍ!
بالله عليكم! عندما يقف الطاغية في هذه الأيام، الذي يريد كل منطقتنا أن تكون دولته الكبرى، متسلحاً بكل ما توصّلت إليه الخبرة البشريّة في عالم جني المعلومات وتحليلها وتجهيز كل الوسائل والآلات التي تسرق الأمن حتى من داخل بيوتنا أو في أماكن نزهتنا أو في طرقاتنا التي ننتقل فيها بين مكان وآخر، عندما يقفُ ليقول لنا: إنك تستطيع أن تركّع العالم بهذه التكنولوجيا! قد يكون هذا صحيحًا بنسبة كبيرة، لكن بالله عليكم، هل يمكن لشخص أن يعجب بهذا النوع من العلم الذي ينتج هذا المستوى من الوحشية؟ هل يمكن أن يعجب الإنسان بهذا النتاج الذي ينتجه العقل الإبداعيّ بذهنيّة شيطانيّة لا تنتمي إلى الروح التي نفخها الله في هذا الإنسان، الذي أريد له أن يكون متعلّقاً بالله سبحانه وتعالى؟ فإذا تعلّق بالله فإنه يستخدم كل ما أولاه الله سبحانه وتعالى من نعم في سبيل أن ينشر النور لا الظلام، وأن ينشر الخير لا الشر، وأن ينشر الحياة لا الموت، وبعيدا عن الدمار، والكراهية، والعداوة، والبغضاء، إلى سائر كل هذه القيم في إيجابياتها وسلبياتها.
الخير فيما وقع
أمام كل هذا الدمار ، وحجم التضحيات التي ضحينا بها إلى يومنا هذا، ولا نزال، وأمام حجم الدماء التي لا تزال تسيل، حتى أن الأرض باتت تضج من حجم الدماء التي تُسفكُ، والأجساد التي تقع على ترابها، والأبنية التي تُنسف في أحياء دفعة واحدة وعلى الهواء مباشرة قد يتساءل البعض منّا: أين هو الخير من كلّ ذلك؟ والله تعالى قال لنا: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[2]، والله تعالى قال: (فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[3]. والجواب أنّ أحد وجوه الخير في أن ندرك أيَّ نموذج يمكن أن يصل إليه الإنسان في توحشه، ليضيء لنا أيَّ نموذج لا بدَّ من أن نُصِرّ عليه.
عندما نقف في مثل احتفالنا هذا اليوم، تجد العلم المتوحش أفقد البشريّة الشعور بالأمن والسعادة، وفرض عليها الخوف والقلق والتوتّر والحزن، إلّا من خلال ما يقدّمه أصحاب القوّة والنفوذ لهم. والله تعالى يقول لنا منذ فجر البشرية: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[4] "لا خوف" أي الأمن، "ولا هم يحزنون" تعني السعادة في مقابل القلق والتوتّر والحزن والهمّ وما إلى ذلك. الله تعالى يقول لنا بشكل غير مباشر: السعادة والأمن في هداي.
نحن اليوم – ربما نكون في آخر أجيال البشرية، لا نقول في آخر جيل، لا نعلم ولا نجزم على ربنا في شيء –أكثر معرفة بأن هداية السماء التي تدفع الإنسان إلى شكر النعم باستثمارها في طريق الخير هي التي تخلق للإنسان الأمن والسعادة الحقيقية.
أما التكنولوجيا المجرّدة من الروح التي تقع في أيدي أشرار، والذكاء الاصطناعي وكل تطورات العلم في مدى المستقبل القادم، التي تغرقُ الإنسان في المادّة، فيمكن أن تدفنَ الإنسان في عالمٍ من الشرّ، ولن يستطيع إنسانٌ أن يتحمل العيش في هذا العالم لحظة واحدة. لماذا؟ لأن الأمن عندما يُفقد ويعشش القلق والتوتر في كل لحظة من لحظاتنا، فإننا لن نطيق العيش في هذا العالم. الانسان لم يُخلق ليعيش بهذا المستوى من الضخّ الكثيف والاستلاب التام واللانهائي أمام كل ما ينتجه الآخرون، ولاحقًا ستنتجه الآلة.
الإنسان القلق، و المتوتر، والذي لا يعرف كيف يتحسّس حتى ما يأكل ويشرب. ألسنا نشاهد اليوم أنفسنا أو الآخرين، كيف بتنا نأكل ونحن نحمل هواتفنا المحمولة؟ هل نحسُّ بطعم اللقمة، هل نحسُّ بالنعمة؟ حتّى عندما ننتهي ونقول: الحمد لله، قد لا نجد هذا الحمد في داخل نفوسنا على هذه النعمة، لأننا لم ندر أننا بدأنا حتّى انتهينا! وعندما نصلّي كذلك، خصوصاً عندما يفتح الإنسان هاتفه المحمول في سجادة صلاته، فيصبح الهاتف من "عدّة الصلاة"؛ لأنه ينتظر اتصالاً مهماً هنا واتصالاً مهماً هناك، بينما الله تعالى قال لنا: اقتطعوا هذا الوقت؛ حتّى إذا أخذتكم الحياة بكلّ ما فيها، وبالعالم الرقمي الذي بتنا لا نستغني عنه بطبيعة الحال، بل من السذاجة أن نطلب الاستغناء عنه، لكنّ الله تعالى قال لنا: عندما تنغمسون في الحياة، تعالوا إليه لتعيشوا نوعاً من إعادة النظر أو إعادة الإنتاج لفكرة، حتّى تختبروا فكرةً ما علقت في أذهانكم تختبروها في داخل نفوسكم. أمّا عندما تكون مشغولاً بشاشة هاتفك وتقوم بالانتقال من فكرة إلى أخرى، فلن تستطيع ان تقوم بأي عملية اختبار لما علق في داخل ذاتك على هذه الفكرة أو على ذاك المُنتج الذي ينتجه الآخرون.
التحدّي الكبير
لذلك نحن نقول: التحدّي الكبير هو أن نرفض أن نتحوّل إلى مجرّد أرقام لا في جيوب الآخرين ولا في حساباتهم، ولا في منافعهم، ولا في قيمهم وما إلى ذلك، وأن نبقى على قيمنا وأن نثبت عليها أمام كلّ الضغوطات التي تمارَس علينا – بشكل مباشر أو غير مباشر -، وبذلك نقول: إنّ الحقّ لا تحدّده القوّة، وإنّما الحقّ هو الذي يعلو القوّة ويحكمها، كما قال الإمام عليّ (ع): "القوي العزيز عندي ضعيف ذليل حتى آخذ منه الحق"؛ لأنه ظالم، "والضعيف الذليل عندي قوي عزيز حتى آخذ له بحقّه"[5]؛ لأن الحق معه.
ولذلك لا نقبل أن يُقال لنا: إنّ عليكم أن تتنازلوا عن الحق، لأنّ الحقّ لا يطعمكم خبزاً، ولأن الحقّ لا يشفع لكم عند هذه الدولة أو ذلك المحور او عند هذا الاتّجاه او ذاك. عليكم أن تتنازلوا عن الحق ليصبح الحقّ ما يقوله الآخرون، من أصحاب القوّة أو الجاه أو المال أو أصحاب المواقع والمناصب التي تأخذ ألوانًا وأشكالًا شتّى. لماذا حدثنا الله تعالى عن فرعون الذي قال: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)[6]؟ أليس لنتعظّ من فراعنةٍ قد نواجهم في حياتنا؟؟ ولماذا حدّثنا الله عن قارون الذي قيل له: (لا تَفْرَحْ)، أي لا تبطر، (إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ، وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرَةَ ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، فالله سبحانه وتعالى لم يحرمك من أن تلتذّ بالحياة وفي الحياة، (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ) واستخدم المال كطاقة في سبيل الخير لا في سبيل الشر، في سبيل نفع الحياة لا في سبيل ضررها، (وَلا تَبْغِ الفَسادَ في الأَرْضِ)[7].
بماذا أجاب قارون؟
(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي)، هنا قطع صلته بالله سبحانه وتعالى، واستكبر على الله الذي رزقه، فجاء التصوير القرآني في لحظةٍ: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ). هكذا يؤدّب الله عباده، وهكذا يعلّمنا الله أن نبحث عن قارون متمثّلاً في شخصٍ ما، وهذا أبسطُ ما نبحث عنه، في الوقت الذي قد يكون فيه قارون عبارة عن شركة كبرى تمتصّ ثروات الناس، وتشنُّ الحروب من أجل الموادّ الخامّ أو لكي تحرّك مصانعها، وقُسّمت بلادٌ لأجل ذلك ولا يزالون يعملون على ذلك، وأدخلت بلادٌ في فتنٍ يشيبُ فيها الطفل لأجل ذلك..
لا بدّ أن نتّعظ ونعرف موقفنا لا نتمنّى أن نكون مكانَ قارون، فنُستَلَبَ كما حصل لقومه، حتّى إذا رأوا عاقبته في نهاية المطاف، كما صوّرهم الله تعالى: (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)[8]؛ لولا أن منّ الله علينا لكنّا معه في مصيره؛ لأننا مشينا مع منطقه، وبنينا اقتصادنا على هوى اقتصاده وسياساته، ولأنّنا عشنا في ظل استهلاك ما ينتجه الآخرون. هكذا يمكن ان يخسف الله بنا ليس بمعنى أن يفتح الارض ونُدفن فيها بالضرورة، بل بمعنى أن يدمّرنا اقتصاديًا وسياسيًا وتربويًا وتعليميًا. ألا يُقال اليوم إنّ الكثير من المنظّمات غير الحكومية تعمل على تغيير المناهج، لماذا؟ لأنّها تريد أن تضمن الجيل الذي يستهلك لا الجيل الذي يُنتج، ولا الجيل الذي يبدع، ولا الجيل الذي يحمل قيمًا تضرُّ بمصالح الجهات الاستكباريّة.
معركتنا الحاضرة والقادمة
أن نثبت؛ هي معركتنا في الحاضر، وهذه معركتنا القادمة. ونحن إذا ضاقت علينا الحياة في جانب من جوانب الجهاد، فعلينا أن نعرف أنَّ هناك جوانب أخرى، ولذلك نبقى في الساحة، ونظلّ في قلب الصراع الذي أراده الله: الصراع بين إرادته التي يحقّقها بأيدينا وإرادة إبليس، هذا الذي قال لله عز ّوجلّ عندما رفض أن يسجد لآدم، بمعنى أنّه رفض أن يسير مع مشروع ادم الذي هو مشروع خلافة الله على الارض: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)[9]، إبليس الذي سيشاركهم في الأموال والأولاد، وسيدخل معهم في هذه التجارة أو تلك، وهذه الصفقة أو تلك، وفي هذه السياسة أو تلك، وفي هذا الخطّ الاقتصادي أو ذاك. وسيعمل على أن يمنع بني آدم من شكر الله، باستثمار النّعم في خطّ رضاه وإعمار الحياة كما يُريد.
ويومَ القيامة عندما نجتمع لنلقي باللوم على الشيطان، الذي منه شياطين الإنس والجنّ، (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ)، فليس هناك من "تلبُّس" جنّ أو شيطانٍ بالإنسان، بل هنالك ملفٌّ معيّن يُلقيه إليك، يحاكي نقاط ضعفنا، فنفتح هذا الملف، فيدخل إلى أجهزتنا وقلوبنا ومشاعرنا، ويدفعنا إلى أن نفكّر بتوتّر، تمامًا كما يصيبُ فيروسٌ ما جهاز الحاسوب، وهكذا يصبح عندنا فيروسات شيطانيّة في داخل كلّ أجهزتنا الروحية والنفسية والاجتماعية، فتُدمّر علاقاتنا وأوضاعنا وحياتنا.
(وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم)[10]، فالله أعطاكم عقلًا، ومنحكم الهداية إلى كيفيّة تحديث جهاز المناعة ضدّي، بالعبادة والصلاة بين يديه وبالخضوع له، والتضرّع إليه، وبطاعة أمره ونهيه، وأن تتعرّفوا على خطوات الشيطان في مجالات الحياة، فتعرفوا من ذلك كيف لا تقعون في شرك زينته وتسويقه، والتي قد تقوم بها شياطين إنسٍ مثلكم، على شكل أشخاصٍ مؤثّرين، أو منظّمات تتحرّك بعناوين برّاقة، أو شركاتٍ تدفعهم إلى استهلاك ما يضرّكم ولا ينفعكم، وما إلى ذلك.
هكذا نفهم العلم، وهكذا نفهم مسيرته، وهكذا نُنَشِّئ عليه، وهكذا نذكّر أنفسنا به، وهكذا نقف في قلب التحديات التي تريد أن تفرض علينا لا الألم فقط، وإنّما تفرض علينا أن تُستلَبَ نفوسنا من داخلها، فنقدّس الألم، ونعتبر أنّنا لا نستحقُّ الحياة، ولا نملك المستقبل، بل أن نبقى محكومين بكل الصور التي أرادوا زرعها لهذه القوّة وهذا الجبروت الذي بثّوه فينا خلال كل الأزمنة الماضية وبخاصّة في العام الماضي، ولا يزالون يعملون عليه.
نحن يدٌ تصنع وعد الله
هنا نقف لنقول إنّنا نستطيع باللهِ أن نكون سادةً في العالم، ونستطيع أن نكون خلفاء الله في أرضه، إذا مُنِعنا من ساحة فإنَّ هناك ساحات أخرى، وإذا وقفت بنا العربة في جانب فإنّ الأقدام يمكن أن تسير، وإذا لم تكن لدينا أقدام سنزحف على الأرض، وإذا لم يكن لدينا ما نزحف به سنشير إلى الآخرين أن يزحفوا وأن يتحرّكوا حتى نبلغ بالجيل الحالي أو بالجيل القادم أو بالذي بعده، نبلغ الغاية والهدف؛ لأننا أمام يقينٍ وعَدَنا الله به، أنّ الله ينصر رسله بالغيب، وأمام يقينٍ أنّ الله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وأمام يقينٍ أن الأرض لله يورثُها من يشاء من عباده، وأمام يقين أن الله يمنُّ على الذين استضعفوا في الأرض، ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.
كل هذا اليقين بوعد الله الذي نحن جزء من صناعته، إذا وقفنا في هذه المرحلة كما يريد الله سبحانه وتعالى منّا، وفعلنا ما علينا بالوسائل التي بين أيدينا، وبكلّ الطرق التي لدينا، ممّا هو داخل الصندوق أو خارجه. إذا فعلنا ما علينا، وتوكّلنا على الله فيما لا نعلم، وتركنا المسيرة بيد الحيّ الذي لا يموت؛ والله سبحانه وتعالى قال لنا: (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)[11]، لكن نبذل كل ما في وسعنا من أجل أن يبقى النموذج، أن تبقى الفكرة، أن يبقى الخطّ، أن تبقى القضية في كلّ موقع من مواقعنا. وأن نضمّ العقل للعقل، والقلب على القلب، والساعد مع الساعد، والقدم مع القدم، لنسير جميعًا، ولا ننشغل ببعضنا البعض في كل الفتن التي يعملون عليها هنا وهناك. أن نسير معًا من أجل أن نبلغ الغاية، ويدُ الله سبحانه وتعالى مع الجماعة.
هذه المسيرة بدأناها في رؤيةٍ كُبرى؛ أن نصنع الأمن والسعادة للبشرية، ولا بدّ من أن نصنع لأنفسنا الأمن والسعادة حتى في عمق التحدّيات والابتلاءات، ونعرف أنّه في نهاية المطاف سننالُ في الدنيا قبل الآخرة، عندما نحسن أن نعيش حتّى في عمق البلاء كما عاش الأنبياء، وكما عاش الأولياء، صنعوا ما عليهم وتوكّلوا على الله. فإذا بنا اليوم بعد ألف وخمسمائة سنة من نبينا (ص) ومن أهل بيته (ع)، إذا بنا اليوم نأكل مما غرسوا فكراً، وروحاً، وقلباً، وعملًا.
في الختام، أهنئ كل الطلاب الأعزاء الذين ارتقوا من مرحلة إلى مرحلة. والحياة مراحل؛ مرحلة تتلوها مرحلة، وليس من لحظةٍ نرتاح فيها من العمل. وأقول لكم: أمامكم اليوم جهدٌ وجهاد؛ لأنّكم الجيل الذي ينبغي أن يحمل من الجيل الحالي هذا العلم الذي هو للخير، ويحمل هذا القلب الذي ينضبط بالحبّ للحياة لا بالكراهية، ويحمل السلوك المستقيم الذي يتّقي الله، ولا يعيش الانحراف أو يعبّر عن وحشيّة تأكُلُّ كلّ جميلٍ في الروح والحياة.
---------------------------------------------------------------
كلمة ألقيت في حفل تخريج الناجحين في الشهادة المتوسّطة في ثانويّة الإمام الحسن (ع) – الرويس (الضاحية الجنوبيّة لبيروت)، يوم الثلاثاء 16 ربيع الثاني 1447هـ، الموافق لـ 23 أيلول 2025م.
[1] سورة النازعات.24 :
[2] سورة الشرح: 6.
[3] سورة النساء: 19.
[4] سورة البقرة: 38.
[5] نهج البلاغة، ج1، باب المختار من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وأوامره، خطبة 37
[6] سورة غافر: 29.
[7] سورة القصص: 76-77.
[8] سورة القصص: 82.
[9] سورة الأعراف: 16-17.
[10] سورة إبراهيم: 22.
[11] سورة المؤمنون: 62.